مذكرات السبت العظيم لجزيرة أيرلندا (١)

جدول المحتويات
أتممت قبل أيام السبت الثاني من رحلتي لجزيرة أيرلندا الفاتنة .. عليّ الاعتراف بأن نشوتي الداخلية لم تكن في أحسن أحوالها قبل الوصول إلى هنا في سبتي الأول ..
إذ لم تنتابني أية حماسة استباقية غامرة ؛ من شأنها إثارة نوازع التوق الكامنة بي تجاهها ، والتي تنبعث من تلقاء نفسها مع كل سفر ..
لا أدري ؛ فلربما استجدّ هذا الأمر عليّ بسبب ولعي المتنامي مؤخرا بقارة الأمريكيين الجنوبيين ؛ فمفعول الـسحر اللاتيني قد أعاد ترتيب قائمتي المفضلة لدول العالم .. أو ربما لكوني لا أحمل أية مشاعر محايدة -في الأساس- حيال الإنجليز ومن شاكلهم أو اقترب منهم !! .. لست أدري :)
أما الآن وبعد انقضاء هذه المدة في الجزيرة الزمردية كما تُدعى ؛ أطمئنكم بأن محرك دهشتي عاد لطبيعته المعتادة في مطاردة الأعاجيب ؛ لا يكل من اكتشاف كل جُرف من منحدراتها الطبيعية الخلابة ، أو محاولة الالمام بأي معلومة تاريخية تخص شعبها السلتي الأبّي ..
ترافق ذلك مع الأداء المبهر لمحركات سيارتي الهجينة من نوع تويوتا سي اتش آر (C-HR) التي تشاركني ذات الشغف في المهمة ، والتي قيل لي عنها في صالة التأجير بالمطار أنها تعمل بمحركين اثنين فقط ؛ حتى نمى في يقيني بعد صحبتها وصار في حكم المؤكد عندي أنّ مكينتها تتجّلد بأكثر من ذلك !! ؛ لا غرابة فمن رموزها تبدو يهودية بالفعل :) ..

في مستهل الأيام الثلاثة ؛ قضيت وقتا ممتعا في العاصمة دبلن ، والتي رأيت فيها وجه لندن العريق المتجعّد بتصاريف الزمن ، كأنما هي أختها الشقيقة التي تميل شخصيتها إلى أن تكون أكثر كلاسيكية و"Vintage" .. كذلك أوحت لي نسماتها الانطباعية في أجوائها الربيعية المعتدلة ، وبحسب ما لاقيت من أناسها و إجراءات مطارها ؛ أن المدينة وسكانها على درجة عالية من الود والروقاااان والتقبل ..
طبعا هذه المرة وبخلاف العادة ؛ وجدت نفسي لا تود الانخراط أبدا في أي نشاط جماعي مع نفر من الغرباء في مجموعات سياحية منظمة ؛ باستثناء القيام بتجربة مميزة -إن وجدت- ذات تماس حقيقي مع ثراث البلد وثقافته ؛ حتى تبين لي لاحقا بأنه لا يوجد شيء هنا أكثر أصالة من "الويسكي" بجعّته وحاناته :) ؛ فالحمد لله على عافيته ..


من أهم ما قمت به في جولتي الأولى مع دبلن (لي عودة وداعية إليها) ؛ زيارة معرض بسيط في سوق تجاري ضخم بوسط المدينة ؛ يستعرض شيئا من تفاصيل المجاعة الكبرى التي أهلكت شعب أيرلندا في منتصف القرن التاسع عشر ، والمعروفة أيضا باسم "مجاعة البطاطس" حيث مثّل هذا النوع من الخضار آنذاك المصدر الغذائي المتوفر لغالبية سكانها من الفلاحين الفقراء ، والذي اجتاحته آفة فطرية دمرته وقضت على معظم محاصيله في سبعٍ من السنين العجاف ؛ تناسلت في محنتها البأساء والضراء ؛ اللتان أوديتا بدورهما إلى موت مئات الآلاف من الأيرلنديين جوعا أو مرضا ، وشتّت آخرين مثليهم في أصقاع الأرض .. كذلك كان للاستيطان الجائر لمعظم الأراضي الزراعية للمستعمرين البريطانيين ، واحتكار البعض الآخر من قارونات الأيرلنديين الذين يوالونهم في الدين والولاء من العوامل المؤثرة في تفاقم تلك المجاعة !! ..


بل إن الإجراءات غير الجدية للحد من المجاعة والتخفيف منها ، وسياسة عدم الاكتراث التي انتهجتها حكومة التاج البريطاني فيما يفترض وقوعه ضمن وصايتها ؛ زادت من تداعيات هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في تاريخ الأوربيين والأيرلنديين على نحو خاص، والتي وصفت لاحقا عند بعض المؤرخين بالإبادة الجماعية المتعمدة !! ؛ والمجمّلة سياسيا بما كان يُعرف قانونا لإدارة المستعمرات بأقل التكاليف بـ"اليد الحرة" ؛ أي : عدم تدخل رأس الدولة المستعمر في هكذا شؤون محلية !! .. ناهيك عن تعرض الأيرلنديين لشتى وسائل القمع والتمييز طوال سنوات احتلالهم ، واغتيالهم معنويا بتصويرهم نمطيا بكل صفات البلادة والكسل والتخلف ..

كذلك من المفارقات التي لا تنفك عن سلوك المحتلين الطاغين من بني البشر في هذا السياق ؛ أنّ تصدير مختلف أصناف الغذاء من أيرلندا إلى إنجلترا استمرّت أثناء المجاعة ولم تتوقف !! .. هنا لعلي أتذكر أبياتا لشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني ؛ لا تكاد تبرح مخيلتي في مثل هذه المواقف ، والتي يصف فيها -رحمه الله- بعظمته البلاغية المستبصرة ؛ هذا المستوى الخسيس من الدناءة عند بعض بني البشر .. لعلي أحب أن تقرأها بسمعك وبصرك ؛ في بعض مشاهد الرغد والرخاء الذي يتنعم به الأيرلنديون اليوم ، وقد انقلب حالهم بعد نيل الحرية والاستقلال ؛ فمأساتهم في ظني ليست بدعا عن غيرها .. فهي كمأساة أي غزة ؛ لم تكن في شح الخبز أو مرض البطاطس وإنما في غياب الشعور وتبلّده لدى المترفين في هذا العالم ..
لذلك فمهما تتابعت الأيام ؛ فلكل أمة أمد قحط وسنين جوع .. هذا ابتلاء الله الحكيم في تمحيص الناس واختبارهم ؛ فاللهم إنا نعوذ من بلاء لا نصبر من بلوائه معه ، ونعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ..
و أغرس حقلي فتجنيه أنت .. و تسكر من عرقي منجلك .. لماذا وفي قبضتيك الكنوز .. تمدّ إلى لقمتي أنملك !!

أيضا من الزيارات اللطيفة التي متّعتني بها الجميلة دبلن ؛ التنقل عبر باحات وأفنية جامعتها ترينيتي دبلن "Trinity College Dublin" العريقة ، والتي يتغذّى بصرك في حرمها الأخضر الممتد ؛ مزيجا أخاذا من مختلف الطرز المعمارية لصروحها ؛ فهي تعد أم الجامعات في أيرلندا والشمال الغربي من أوربا عموما ؛ تأسست بأمر الملكة على غرار من سبقها من الجامعات المرموقة في مملكتها الحرام ، وجعلتها حكرا على البروتستانت من بني ملتها ؛ إلى بقية المعلومات التاريخية التي أربأ حشو وقتك بها .. لكن أهم ما ستقدمه لك هذه الجامعة إن دخلتها من باب السائحين من أمثالي ؛ غير ما تحشو به رئتيك من الحنين اللذيذ إلى مرحلة التعليم الأكثر صوابية في حياة أدلجة الطالب المعاصر ؛ جناحا مبسوطا طوال أيام العام عن أبرز مخطوطاتها القديمة والعائدة للقرون الأولى من الميلاد "The Book Of Kells" وهو عبارة عن كتاب يحوي الأناجيل الأربعة مزخرفة آياتها المحرّفة بطريقة فنية وهندسية لافتة للنظر ؛ بأنماط دقيقة معقدة ، وحروف أولية مذهبة ، ورسومات ذات مغزى للجمادات والحيوانات والانسان ..

بعدئذ يقودك مسار هذا الجناح إلى مكتبتها القديمة ؛ الطويل رواقها كعنق الزرافة (٦٣,٧ م) ، والمقوس سقفها كبرميل تخمير النبيذ المصنوع من خشب البلوط ؛ والتي وإن لم تكن ممتلئة عن بكرة أبيها بالكتب إلا في رفوفها المتقدمة عند منصة الدخول للاستعراض ؛ إلا أن جلال المكتبات وأنفاس الأوراق والأحبار ما تزال حيّةً فيها .. حيث اُستغل عرضها النحيف (١٢,٢ م) بعرض عدد من المنحوتات الفنية لشخصيات علمية وأخرى دينية ، وكنوز أثرية أيرلندية متعددة ؛ يأتي في طليعتها قيثارة سلتية موسيقية هي المعمرة الوحيدة من جنسها في هذا العالم ..
المكتبة القديمة أو The Long Room وقد مسخت في عصر العبور الجندري إلى متحف :(
سأكتفي بهذا القدر من الوقائع الهامة بالنسبة لي مع دبلن ، وسأعود لأكمل بقية ما يهمكم في نظري من الحكاية مع هذه الجزيرة .. لتعبروا معي خلالها في سبتٍ آخر عظيم ؛ يوافق في رمزيته التاريخية ما يكنه الأيرلنديون الشماليون للجمعة العظيمة التي نالوا بها اتفاقية سلامهم ..
كما أن من المفترض أن يكون سبتي الثالث قد انتصفت في طريقي .. أو طريقها الأطلسي البري الخلاب "The Wild Atlantic Way" والذي يكمن به سر مغامرتي ، وبلغت حينها معلمها الأبرز وسر جمالها الأبدي الفتّان ..
هل أكون قد فعلت حينها ؟ نعم فعلتها يا أصدقاء :)
فجمالها في منحدراتها 🇮🇪🤍
منحدرات موهر الأيقونية

النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.